نتنياهو وإيران- مقامرة الهروب إلى الأمام أم خطوة نحو الهاوية؟

في عالم السياسة والحرب، النصر المطلق ليس دائمًا هو الهدف الأسمى، بل غالبًا ما يكون الاحتفاظ بمظهر الطرف المسيطر كافيًا. إن القدرة على إقناع الخصوم، أو الجمهور، أو حتى الحلفاء، بأنك أنت من يقود دفة الأمور، حتى وإن كانت الأمور على وشك الانهيار، تعتبر مهارة حاسمة.
يمكننا فهم سلوك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الفترة التي تلت التصعيد المفاجئ ضد إيران من خلال هذا المنظور.
سلسلة من الهجمات المحددة بدقة في العمق الإيراني، إرسال رسائل متباينة الاتجاهات، واللجوء المتعمد إلى لغة القوة والسيادة، كلها عناصر تظهر وكأن نتنياهو، الذي يعاني من فقدان السيطرة على الأوضاع في غزة وعلى الجبهة الداخلية، قد اختار المضي قدمًا باندفاع، متقمصًا دور الزعيم الذي لا يزال ممسكًا بخيوط اللعبة، حتى وإن كانت هذه الخيوط متآكلة.
نظرة على البدايات: غياب الحسم في غزة وتعثر المفاوضات
بحلول مطلع يونيو/ حزيران 2025، كانت إسرائيل تواجه واحدة من أكثر اللحظات الاستراتيجية تعقيدًا في تاريخها. لم يتحقق نصر حاسم في غزة، ولم تلوح في الأفق أي صفقة تبادل للأسرى.
الإدارة الأمريكية، بقيادة ترامب، تمارس ضغوطًا حذرة لوقف إطلاق النار، في ظل تردد داخل مؤسسات القرار في واشنطن بشأن الانخراط في صراع غير محسوب العواقب، كما أشار تقرير نشره موقع "أكسيوس" في الأسبوع الماضي، سلط الضوء على تحفظات وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بشأن أي تصعيد مباشر مع طهران.
الجيش الإسرائيلي يعاني من الإرهاق، والمجتمع الدولي ينتقد بشدة. الجبهة الجنوبية مفتوحة وتكاليفها باهظة، والهجمات الحوثية مستمرة، والداخل الإسرائيلي يرزح تحت وطأة الصواريخ، وتآكل الثقة، والانقسام الطبقي الحاد.
في ظل هذا الانسداد السياسي والعسكري، بدأت تتبلور نقاشات أكثر صراحة وجرأة داخل المؤسسة الأمنية والسياسية الإسرائيلية:
هل حان الوقت لعقد صفقة تبادل أسرى كبيرة في غزة، حتى لو تم تسويقها على أنها هزيمة؟ أم أن المطلوب هو شن معركة جديدة، لإعادة ترتيب الأوراق وإخراج إسرائيل من عزلتها الاستراتيجية؟
خيار الصفقة بدا غير جذاب لنتنياهو، لأنه ينطوي على تهديد مباشر لنهايته السياسية. أما التصعيد ضد إيران، فكان يمثل، في نظرته، ورقة رابحة ذات وجهين: أولًا، لتحويل الأنظار عن المأزق الداخلي؛ وثانيًا، لدفع الولايات المتحدة نحو التدخل المباشر.. في لحظة يبدو فيها أن الجميع، بمن فيهم ترامب، يفضلون التهدئة وتجنب المزيد من التصعيد.
التوجه نحو طهران: الهروب إلى الأمام بحسابات دقيقة
إن قرار الضربة العسكرية التي وجهتها أمريكا على إيران في ذلك اليوم لم يكن مجرد مغامرة عسكرية متهورة، بل كان تتويجًا لحسابات دقيقة ومتراكمة على الصعيدين الداخلي والإقليمي. فإسرائيل بمفردها لا تمتلك القدرة على تدمير المنشآت النووية الإيرانية بشكل كامل، خاصة وأن مفاعل فوردو يقع في عمق الجبال، وموقع نطنز الجديد محصن بدرجة تجعل القصف من بُعدٍ غير فعال. هذه الحقيقة يعرفها جهاز الموساد جيدًا، ويعترف بها كبار قادة الجيش الإسرائيلي، وعلى رأسهم رئيس الأركان المتشدد إيال زمير.
لكن إسرائيل تمتلك سلاحًا آخر لا يقل أهمية: القدرة على إدارة التصعيد بحذر، وعلى خلط الأوراق وخلق أزمة دولية تضع واشنطن في موقف حرج وتجبرها على التحرك، وهو ما يبدو أنها نجحت فيه إلى حد كبير.
السؤال المحوري الذي يطرح نفسه بعد الضربة الأمريكية: هل جاء التدخل العسكري بهدف القضاء على التهديد الإيراني بشكل نهائي، أم أن واشنطن تتعمد استخدامه كورقة ضغط لتمهيد الطريق أمام تسوية أوسع مع طهران، تتجاوز الحسابات الإسرائيلية وتعيد رسم خريطة المشهد على طاولة المفاوضات؟
على الرغم من أن نتنياهو يراهن على الاحتمال الأول، فإنه يدرك تمام الإدراك أن ترامب، الذي يقترب من نهاية ولايته الرئاسية، لن يكون على استعداد للانخراط في حرب شاملة وطويلة الأمد في الشرق الأوسط.
بين الخطاب الناري والواقع المرير: عنف الكلمات أم عنف الفعل؟
على الصعيد الداخلي، لجأ نتنياهو إلى سلاحه المفضل: الخطاب الناري الحماسي. تصريحات من قبيل "نستطيع تدمير كل المنشآت الإيرانية"، و"نريد أن نرى طهران تركع"، و"اغتيال نصر الله كسر ظهر المحور الإيراني" ملأت الفضاء.
خطاب متضخم، يعتمد على الصور الجوية والرموز التاريخية. ولكن خلف هذا الاستعراض البلاغي، تكمن الحقيقة القاسية: إسرائيل، في جميع السيناريوهات المحتملة، لا تستطيع الاستغناء عن الدعم الأمريكي. فإذا كانت ترغب في إسقاط النظام الإيراني، فإن مفاتيح ذلك تقع في أيدي البنتاغون. وإذا أرادت تدمير المنشآت النووية، فإنها تحتاج إلى قاذفات القنابل الأمريكية. وإذا أُجبرت على الدخول في صفقة دبلوماسية، فلا بد من مظلة حماية من واشنطن.
وبناءً على ذلك، وبعد الضربة الأمريكية على إيران، يصبح السؤال المعاكس هو الأكثر أهمية: هل ستتنازل إسرائيل وتسمح لواشنطن بالمشاركة في تحديد ملامح النهاية؟ أم أنها ستحاول الاحتفاظ لنفسها بالحق الحصري في إشعال فتيل الحرب؟
من بيرل هاربر إلى هيروشيما: إغراء المقارنات التاريخية
في محاولة لإضفاء طابع درامي على الأحداث، لجأ بعض المسؤولين والكتاب في إسرائيل إلى استخدام استعارات تاريخية مبالغ فيها:
"بيرل هاربر معكوسة"، "هيروشيما إيرانية"، بل وصل الأمر بالبعض إلى الحديث عن "الضربة التي ستغير وجه الشرق الأوسط كما فعلت حرب 1967".
لكن هذا الانغماس في التاريخ يكشف عن ضعف وهشاشة أكثر مما يعكس قوة وصلابة. الرد الإيراني لم يتأخر، واستهدف مواقع حساسة، مما أدى إلى حالة من الذعر والفوضى داخل الدوائر العسكرية والحكومية المسؤولة عن الرقابة.
في غضون ساعات قليلة، تم فرض إجراءات احترازية مشددة على وسائل الإعلام الأجنبية وصلت إلى حد مصادرة المعدات والتحقيق مع المراسلين العرب، وفرضت الرقابة العسكرية قيودًا فورية على نشر تفاصيل الضربات، حتى تلك التي تم توثيقها من قبل السكان المحليين عبر تسجيلات الفيديو.
لم يكن الهدف من هذه الإجراءات هو التكتم الأمني فحسب؛ بل أيضًا الحفاظ على صورة "اليد العليا" قبل أن تتلاشى في البث المباشر.
وعلى الجبهة الداخلية، تم تسجيل أكثر من 22 ألف مطالبة بالتعويضات عن الأضرار، وفقًا لتقديرات هيئة الطوارئ الإسرائيلية، بينما أشارت تقارير إعلامية عبرية إلى تهجير أكثر من 8 آلاف إسرائيلي من المناطق المتضررة، وتراجع حجوزات السياحة الداخلية بنسبة 40٪، بالإضافة إلى الإغلاق الكامل للمجال الجوي.
ومع ذلك، لم يندلع غضب الشارع بعد. لم تخرج مظاهرات عارمة من أهالي الأسرى، ولم تسحب الثقة من الحكومة.. ما هو السبب؟
السبب هو أن نتنياهو نجح على مدى عقدين من الزمن في تسويق الصراع على أنه قضية "وجودية"، يعيد سردية حرب عام 1967، ويخفي مظاهر الانكسار والهزيمة الحالية والمستقبلية. لكن هذا التماسك الظاهري قد لا يدوم طويلًا، خاصة إذا طال أمد الحرب، أو فشلت الضربات في تغيير قواعد اللعبة.
الرد الإيراني: بين الاستعراض والتحذير الشديد
المفارقة تكمن في أن الرد الإيراني، على الرغم من محدوديته، أعاد تعريف طبيعة الصراع في الوعي الإسرائيلي. في معهد أبحاث الأمن القومي (INSS)، ظهرت تحليلات تعتبر أن طهران اختارت ردًا محسوبًا بدقة، "يُظهر القدرة دون الانزلاق نحو حرب شاملة مدمرة". وفي المقابل، رأت بعض الدوائر الأمنية أن الرد، بحد ذاته، يؤكد أن إسرائيل قد تجاوزت "خطوطًا حمراء" إيرانية، مما يفتح الباب لمزيد من التصعيد المحتمل.
الجدير بالذكر أن هذا التباين في وجهات النظر لا يقتصر على المؤسسات البحثية، بل يمتد ليشمل النخب السياسية: فبينما يروج نتنياهو لـ"الإنجازات الكبرى" التي تحققت، خرجت النخب العقلانية لتحذر من مغامرة متهورة "بلا استراتيجية واضحة"، فيما أعرب آخرون عن قلقهم من أن "يقودنا نتنياهو إلى مواجهة مفتوحة لا نهاية لها من أجل ضمان بقائه السياسي".
كيف ترى إسرائيل إيران اليوم؟
من وجهة نظر إسرائيل، لم تكن إيران مجرد دولة تسعى لامتلاك سلاح نووي، بل هي أيضًا المحور الرئيسي لتحالف إقليمي يمتد من اليمن إلى قطاع غزة، مرورًا بالعراق ولبنان.
لكن إسرائيل تتعامل مع إيران بطريقة مختلفة تمامًا عن تعاملها مع حزب الله أو حماس: ففي مواجهة الحركات المقاومة، تعتمد إسرائيل على المعركة الاستخباراتية والتكتيكية، التي تركز على تصفية القيادات وتفكيك البنى التنظيمية. أما في مواجهة إيران، فإن المعركة تتخذ طابعًا رمزيًا واستراتيجيًا: تدمير البنى التحتية السيادية، وتفكيك قوة الردع، وتحويل الدولة إلى "ساحة مستباحة"، كما كتب أحد المحللين في صحيفة "إسرائيل اليوم".
الهدف ليس فقط تحقيق الردع، بل أيضًا تشويه الصورة الإيرانية بشكل كامل، ودفعها نحو الفشل الذاتي، دون الحاجة إلى احتلال أو غزو عسكري، وهو أمر معقد بحد ذاته.
إسرائيل اليوم لا تقف فقط أمام مفترق طرق حاسم، بل أمام مرآة قد تكشف عن عمق هشاشتها الداخلية؛ ففي غزة، لم تحقق أيًا من الأهداف التي وضعتها لنفسها. وعلى الجبهة الداخلية، تعيش حالة من الاستنزاف الكامل الذي يعيد تعريف طبيعتها. وعلى الصعيد الدولي، فهي تفقد شرعيتها يومًا بعد يوم. وفي الولايات المتحدة، حتى أقرب الحلفاء يطالبونها بالتهدئة وضبط النفس.
وفي خضم هذا التآكل المتزايد، تأتي الضربة على إيران كفرصة أخيرة لإعادة السيطرة على الموقف. ولكنها قد تكون أيضًا القفزة الأخيرة نحو المجهول. فبدون صفقة تنهي الحرب في غزة، أو اتفاق يجمّد البرنامج النووي الإيراني، فإن إسرائيل قد تحرق جميع أوراقها في الشرق الأوسط.. وتبقى بلا أوراق رابحة.
الخطر الحقيقي لا يكمن في حجم الضربة العسكرية نفسها، بل في غياب استراتيجية واضحة للخروج من الأزمة. والمأزق لا يتجسد فقط في طهران أو غزة، بل في عجز إسرائيل عن تحويل فائض القوة العسكرية إلى إنجاز سياسي مستدام.
عند هذه النقطة، تصبح كل جبهة مفتوحة عبئًا إضافيًا، وليست فرصة جديدة. وكل صاروخ يتم إطلاقه قد يقرب إسرائيل من لحظة المواجهة الكبرى.. مع نفسها قبل أي طرف آخر. فما يبدو كخطوة هجومية متقدمة، قد يتحول إلى بداية النهاية. خاصة عندما تُخاض الحروب بلا سقف زمني، وبلا خطة واضحة، وبلا شركاء حقيقيين.
ربما لهذا السبب، تبدو إسرائيل الآن في أوج قوتها العسكرية.. وفي الوقت نفسه، أكثر هشاشة وضعفًا من أي وقت مضى!